وجوب إخراج زكاة الفطر طعاما | خطبة جمعة

[وجوب إخراج زكاة الفطر طعاما]
*** خطبة جمعة ***
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله .
أما بعد : فإنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله ، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكل محدثةٍ بدعةٌ ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
معاشر المؤمنين :
اتقوا الله ربَّ العالمين ، واعلموا أن الله - عز وجل - أوجب عليكم طاعة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول]
وقال [وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا]
وحذر اللُه - عز وجل - من مخالفةِ أمرِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال [فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ]
وجُعِلَتْ طاعةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلا على صدقِ محبةِ اللِه - عز وجل - ، قال الله [قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم]
وعلّق اللُه - سبحانه - سبحانه حصولَ الرحمةِ بطاعة رسولهِ فقال [وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون]
وعلّق حصولَ الهدايِة بطاعةِ الرسولِ فقال[وإن تطيعوه تهتدوا]
وجعلَ اللهُ حياةَ القلوبِ في طاعةِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال [يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم]
فطاعةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مقدمةٌ على هوى النفسِ ، وعادةِ الناسِ ، وعُرْفِ البلدِ .
ألا وإنَّ من المسائلِ التي يختلفُ فيها الناسُ كُّلَّ عام : ويتكلم فيها الخاصُّ والعامُّ :
[مسألةَ زكاةِ الفطرِ : هل نخرجُها بالنقودِ أو بالطعامِ]
والواجبُ على الجميعِ عند الاختلافِ والتنازعِ : الرجوعُ إلى الكتابِ والسنةِ ، كما قال الله - تبارك وتعالى - [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا] .
وليحذر المسلمُ أن يُدْعى لحكم الله ورسوله فيكونُ كَمَنْ قال الله فيهم [إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسْبُنا ما وجدنا عليه آباءنا]
وإنما يقول كقول المؤمنين
[إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون]
ثم اعلموا - أيها الإخوة الكرام - :
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج زكاةَ الفطرِ طعاما ولم يكن يخرجُها نقودا .
روى الإمام مالكٌ - رحمه الله -
في موطئه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال [فرضَ رسولُ اللِه - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطرِ صاعًا من تمرٍ ، أو صاعا من شعيرٍ]
وفي موطأ الإمام مالك أيضا : أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال [كنا نُخْرِجُ زكاةَ الفطرِ صاعا من طعامٍ أو صاعا من شعيرٍ]
وليس المرادُ الاقتصارَ على هذه الأصناف ، بل كلُّ مَا كان مِنْ قُوتِ أهلِ البلدِ صَحَّ إخراجُه زكاةً .
والقولُ بإخراجِ زكاةِ الفطرِ طعامًا ليس بدعا من القول ، ولا مذهبًا جديدا ، ولا رأيا مهجورًا .
بل هو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ ، بما فيهم علماءُ المالكية .
يقول الإمامُ مالكٌ - رحمه الله -كما في (المُدَوَّنَة 392/1)
[ولا يُجْزِئُ الرجلَ أن يُعْطِيَ مكانَ زكاةِ الفطرِ عَرْضًا من العُروضِ ، وليس كذلك أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم]
بل لقد سئلَ الإمامُ مالك - رحمه الله - كما في (البيان والتحصيل 486/2)
عن الرجل لا يكونُ عنده قمحٌ يومَ الفطرِ ، فيريدُ أنْ يدفع ثمنَهُ إلى المساكين يشترونه لأنفسهم ، ويَرَى أن ذلك أعْجَلُ ، قال :
[لا يفعلْ ذلك ، وليس كذلك قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم]
وقال الإمامُ المالكيُّ ابنُ عبدِ البرِ - رحمه الله - عن زكاة الفطر
[ولا يُجْزِئُ فيها ولا في غيرها من الزكاةِ القيمةُ عند أهلِ المدينةِ ، وهو الصحيحُ عن مالكٍ وأكثرِ أصحابِه] (الكافي 323)
فالواجبُ الذي دَلَّتْ عليه السُنَّة ،وعليه أكثرُ علماءِ الأمَّة : أن تُخْرَجَ زكاةُ الفطرِ طعامًا لا نقودًا .
وبعضُ الناسِ يعارضُ السنَّةَ بالآراءِ والأقيسَةِ ، فيقول بعضهم
[إخراجُ زكاةِ الفطرِ طعاما لا يُناسبُ هذا العصرَ]
وهذه كلمةٌ خطيرةٌ ، فالله - جل وعلا - يعلم الغيب ،ولم يقل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -
[ولْيُخرجوا زكاةَ الفطرِ نقودًا في آخر الزمان]
[ألا يعلمُ مَنْ خَلَقَ وهو اللطيفُ الخبيرُ]
ودينُ الإسلامِ صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ ، لا أنَّهُ خاضعٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ .
ثم إن الأحوال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد صحابته : كانت متفاوتة .
وقد أصاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقرٌ شديد ، حتى كان
لا يشبع هو ولا أهله من خبز الشعير يومين متتابعين .
وكان يبيت - صلى الله عليه وسلم -وأهله الليالي المتتابعة لا يجدون عَشاءً .
ثم فتح الله على نبيه الفتوح ، وكثرت الأموال ، وتحسنت الأحوال.
ولم يغير رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أمرَ زكاةِ الفطر ،
بل كان يخرجها طعاما في عام الغنى وفي عام الفقر على السواء .
وهكذا اختلفت أحوال الصحابة :
ففي سنة أربع عشرة من الهجرة نصر الله الصحابة في وقعة القادسية وغنموا غنائم عظيمة .
يقول الحافظ ابن كثير في
(البداية والنهاية 51/7)
[غنم المسلمون من وقعة القادسية من الأموال والسلاح ما لا يُحَدُّ ولا يُوْصَفُ كثرةً]
ثم أصاب الصحابةَ فقرٌ شديدٌ في عام الرَّمادة حتى سُمِّيَ عامَ المجاعة ، وهو العام
الثامن عشر من الهجرة .
ومع اختلاف أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - لم يغيروا سنة نبيهم في زكاة الفطر ،بل كانوا يخرجونها طعاما في عام الفقر وفي عام الغنى على السواء .
وبعضُ الناسِ يقولُ
[ولكنَّ الفقراء اليومَ يريدونَ المالَ ولا يريدونَ الطعامَ]
والردُّ على هذا : بأن إرادةَ الفقراءِ لا عبرةَ بها عندما تُخالِفُ النصوصَ ، مع أنَّ الشريعةَ أوجبتْ الزكاة في الأموال واستحبَّتْ الإكثار من الصدقاتِ ، مما يُحَصِّلُ به الفقيرُ المالَ ، وأما زكاةُ الفطر فقد حكمَ اللهُ فيها على لسانِ رسولِهِ بِأَنْ تُخٓرَجَ طعامًا
(وَمَنْ أحسنُ من اللهِ حُكْمًا لقومٍ يُوقِنُونَ)
بل وفي كثيرٍ من الأحوالِ يكونُ ربُّ الأسرةِ الفقيرةِ مُبتلى بتعاطي المخدراتِ أو الدخانِ : ويصرِف المالَ الذي دُفِعَ له في معصيةِ الله ، ويَحْرِمُ أهلَه وأبناءَه .
وبعضُ الناسِ ينسى واقعَه فيقولُ [وأين نجدُ اليومَ فقراءَ يأخذون الطعام]
وهذا سؤالٌ غريبٌ ، إذ قد بلغَ الضيقُ بكثيرٍ من الناسِ كُلَّ مبلغٍ ، حتى عجزُوا عن خبزٍ يُطْعِمُونَهُ أولادَهم ، فهل يأنَفُ هؤلاء الفقراء إذا دُفِعَتْ لهم صنوفُ الطعامِ المختلفة ؟
وبعضُ الناسِ يريدونَ أن يردوا السُّنَّة بأيّ طريقة ، ولو كانت خَيَالِيَّةً ! فيقول بعضهم
[أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج زكاة الفطر طعاما ، لأن الناس كانوا كلهم فقراء ،
ولا يعرفون الدينار ولا الدرهم]
والردُّ على هذا : أنَّ الصَّحابةَ لم يكونوا كلهم فقراءَ ، بل كان منهم فقراءُ وكان منهم أغنياءُ ، ومن أغنياء الصحابة : عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والعباس بن عبد المطلب ، وطلحة بن عبيد الله - رضوان الله عليهم -
وفي صحيح مسلم أن فقراء الصحابة أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا [ ذهب أهلُ الدُثُورِ بالأجورِ ، يصلون كما نُصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقونَ بفضول أموالهم]
وأهل الدثور أي الأغنياء أهل الأموال .
وأما قولُ البعضِ [لم يكنْ في عهدِ رسولِ الله دينارٌ ولا درهمٌ]
فهذا جهلٌ بالتأريخِ والشرعِ .
فقد قال - صلى الله عليه وسلم -
في حد السرقة
[تُقْطَعُ يدُ السارقِ في ربعِ دينارٍ فصاعدا]
وقال [ما أحِبُّ أنَّ أُحُدًا تحوَّل لي ذهبًا ، يمْكُثُ عندي منهُ دينارٌ فوقَ ثلاثٍ إلا دينار أرصدُهُ لِدَيْنٍ]
ويكفي ما ورد من الأحاديثِ الكثيرةِ الواردةِ في باب الزكاة وباب الدِيَاتِ ، مما فيه لفظ (الدينار والدرهم) .
فالواجبُ على المسلمِ ألاَّ يُعارِضَ النصوصَ بعقلِه ورأيه ، وألا يُقَدِّمَ على كلام الله وكلام رسوله شيئا فقد قال الله [يا أيها الذين آمنوا
لا تُقَدِّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم]
أقول ما تَسْمَعُونَ ، وأستغفرُ اللَه لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ ، إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبةُ الثانيةُ :
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ، والصلاةُ والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه والتابعين .
ثم أما بعد :
إنَّ ما سبقَ تقريرُهُ أيها الإخوة
لا مشقةَ فيه ولا عناء ، بل هو أمرٌ يسيرٌ إن شاء اللهُ ، فالذين يقولون [لماذا تُضَيِّقُونَ على الناسِ وتشدِّدون عليهم]
لم يَصْدُقُوا في وصفِهم ، بل إخراجُ زكاة الفطر طعاما أمرٌ سهلٌ بحمدِ الله .
وأما من يقول [ولكن بعض العلماء جوَّزُوا إخراجَ زكاةَ الفطرِ نقودا]
فالردُّ عليه : أنه لا قولَ لأحدٍ مع قولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكُلٌّ يُؤخَذُ مِنْ قولِه ويُرَدَّ إلا نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - .
ولم يأمرنا اللهُ عند الاختلافِ : بأن يأخذ كُلُّ واحدٍ منا ما أعجبه ، وإنما قال الله [فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول]
ثمَّ إنَّ العلماءَ متفقون على صحة إخراج زكاة الفطر طعاما ، مختلفون في صحة إخراجها نقودا ،فلماذا يترك المسلمُ المتفقَ عليه للمختلفِ فيه ، وهل يجعلُ العاقلُ عبادتَهُ محلَّ خلافٍ ونزاعٍ .
والبعض يقول [فهل ما أخرجناه من زكاة الفطر في الأعوام الماضية نقودا : باطلٌ ، وعلينا إعادة إخراجه]
والجواب : بل ما كان في الأعوامِ الماضيةِ لا شيءَ عليكَ فيه ؛ لأنك أخرجتَ زكاةَ الفطرِ نُقُودّا تَظُنُّ صحةَ ذلك ، واعتمدتَ على مَنْ جَوَّزَ ذلك ، فليس عليك شيءٌ فيما مضى ، ولكنك الآن علمت أن زكاةَ الفطرِ إنما تُخْرَجَ طعاما فيجب عليك أن تَعْمَلَ بهذا العلم .
واعلموا أيها الإخوة :
أنَّهُ يجبُ على كل مسلمٍ صاعٌ من طعامٍ كما قال ابن عمر - رضي الله عنهما - : فرض رسول الله زكاة الفطر صاعا من طعام ،
، والصاعُ الواحدُ - على سبيل الاحتياط - ثلاثة كيلو جرام تقريبا ، يخرجه من قوت أهل البلد كالدقيق والأرز وسائر الحبوب وغيرها .
واعلموا أن الله شرع زكاة الفطر طهرة من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين .
نسأل الله - جل وعلا - أن يعيننا على طاعته ، وأن يرزقنا اتباع نبيه ، والاهتداء بهديه ، واقتفاء أثره ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
اللهم تقبّل منّا الصيام والقيام ، وأعِذْنَا من المعاصي والآثام ، وأدخلنا الجنة دار السلام ،
اللهم ارزقنا الأمن والأمان في دورنا ، و أصلح اللهم ولاة أمورنا ،وارزقهم البطانة الصالحة .
اللهم عليك بالخوارج المارقين ، اللهم اهزمهم شر هزيمة ، واجعلهم عبرة للمعتبرين ، وصلى الله وسلم على النبي الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه أخوكم : أسامة الفرجاني
7 رمضان لعام 1437 هجري
وقد تفضل بمراجعة الخطبة وأذن بنشرها :
1) الشيخُ العلامةُ المحدثُ ربيع بن هادي المدخلي - جزاه الله خيرا وبارك فيه - .
وقد تفضل الشيخُ - مشكورا - بمراجعتها مساء اليوم السبت
20 - رمضان - لعام 1437 هجري .
2) الشيخ العلامة حسن بن عبد الوهاب البنا - حفظه الله - حيث قرأتُ عليه الخطبة عبر الهاتف ، مساء السبت 20 رمضان لعام 1437 هجري ، وأذن بنشرها ، فجزاه الله خيرا .
3) الشيخ الدكتور محمد بن ربيع المدخلي - حفظه الله وبارك فيه - ، حيث قرأ الخطبة وأذن بنشرها .
تنبيه : في تقدير الصاع خلافٌ بين العلماء ، وما ذكرتُهُ هو الأحوط في نظري القاصر ، ومع هذا فالمسألة اجتهادية ، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .

ليست هناك تعليقات